فصل: تفسير الآية رقم (1):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (193- 194):

{رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آَمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآَمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآَتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)}
هذه الآيات حكاية عن أولي الألباب أنهم يقولون: {ربنا} قال أبو الدرداء: يرحم الله المؤمنين ما زالوا يقولون: ربنا ربنا حتى استجيب لهم، واختلف المتأولون في المنادي، فقال ابن جريج وابن زيد وغيرهما: المنادى محمد صلى الله عليه وسلم، وقال محمد بن كعب القرظي: المنادي كتاب الله وليس كلهم رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمعه، ولما كانت {ينادي} بمنزلة يدعو، حسن وصولها باللام بمعنى إلى الإيمان، وقوله: {أن آمنوا}. {أن} مفسرة لا موضع لها من الإعراب، وغفران الذنوب وتكفير السيئات أمر قريب بعضه من بعض، لكنه كرر للتأكيد ولأنها مناح من الستر، وإزالة حكم الذنب بعد حصوله، و{الأبرار} جمع بر، أصله برر على وزن فعل، أدغمت الراء في الراء، وقيل: هو جمع بار كصاحب وأصحاب، والمعنى: توفنا معهم في كل أحكامهم وأفعالهم.
وقوله: {ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك} معناه: على ألسنة رسلك، وقرأ الأعمش {رسْلك} بسكون السين، وطلبوا من الله تعالى إنجاز الوعد، وهو تعالى من لا يجوز عليه خلفه من حيث في طلبه الرغبة أن يكونوا ممن يستحقه، فالطلبة والتخويف إنما هو في جهتهم لا في جهة الله تعالى لأن هذا الدعاء إنما هو في الدنيا، فمعنى قول المرء: اللهم أنجز لي وعدك، إنما معناه: اجعلني ممن يستحق إنجاز الوعد، وقيل: معنى دعائهم الاستعجال مع ثقتهم بأن الوعد منجز، وقال الطبري وغيره: معنى الآية ما وعدتنا على ألسنة رسلك من النصر على الأعداء فكأن الدعوة إنما هي في حكم الدنيا، وقولهم: {ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد}، إشارة إلى قوله تعالى: {يوم لا يخزي الله النبي والذين آمنوا معه} [التحريم: 8] فهذا وعده تعالى وهو دال على أن الخزي إنما هو مع الخلود.

.تفسير الآية رقم (195):

{فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)}
{استجاب} استفعل بمعنى أجاب، فليس استفعل على بابه من طلب الشيء بل هو كما قال الشاعر: [الطويل]
وداعٍ دَعَا يا مَنْ يُجيبُ إلى النَّدى ** فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ

أي لم يجبه، وقوله: {أني} يجوز أن تكون {أن} مفسرة ويمكن أن تكون بمعنى {أني}، وقرأ عيسى بن عمر: {إني} بكسر الهمزة، وهذه آية وعد من الله تعالى: أي هذا فعله مع الذين يتصفون بما ذكر، وروي أن أم سلمة رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، قد ذكر الله تعالى الرجال في الهجرة ولم يذكر النساء في شيء من ذلك، فنزلت الآية، ونزلت آيات في معناها فيها ذكر النساء، وقوله: {من ذكر} تبيين لجنس العامل، وقال قوم: {من} زائدة لتقدم النفي من الكلام وقوله تعالى: {بعضكم من بعض} يعني في الأجر وتقبل العمل، أي إن الرجال والنساء في ذلك على حد واحد، وبيّن تعالى حال المهاجرين، ثم الآية بعد تنسحب على كل من أوذي في الله تعالى وهاجر أيضاً إلى الله تعالى وإن كان اسم الهجرة وفصلها الخاص بها قد انقطع بعد الفتح، فالمعنى باق إلى يوم القيامة، {والله يضاعف لمن يشاء} [البقرة: 261] و{هاجر} مفاعلة من اثنين، وذلك أن الذي يهجر وطنه وقرابته في الله كان الوطن والقرابة يهجرونه أيضاً فهي مهاجرة، وقوله تعالى: {وأخرجوا من ديارهم} عبارة إلزام ذنب للكفار، وذلك أن المهاجرين إنما أخرجهم سوء العشرة وقبيح الأفعال فخرجوا باختيارهم فإذا جاء الكلام في مضمار إلزام الذنب، للكفار قيل أخرجوا من ديارهم، وإخراج أهله منه أكبر عند الله، إلى غير ذلك من الأمثلة، وإذا جاء الكلام في مضمار الفخر والقوة على الأعداء، تمسك بالوجه الآخر من أنهم خرجوا برأيهم، فمن ذلك إنكار النبي صلى الله عليه وسلم على أبي سفيان بن الحارث حين أنشده: [الطويل]
............. وردني ** إلى الله من طردت كل مطردِ

فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنت طردتني كل مطرد؟ إنكاراً عليه ومن ذلك قول كعب بن زهير: [البسيط]
في عصبةٍ مِنْ قريشٍ قَالَ قَائِلُهُمْ ** ببطنِ مَكَّةَ لَمَّا أسْلَمُوا زُولُوا

زَالُوا فَمَا زَالَ أَنْكَاسٌ وَلاَ كُشُفٌ ** عِنْدَ اللّقَاءِ وَلاَ مِيلٌ مَعَازِيلُ

وقرأ نافع وعاصم وأبو عمرو: {وقاتلوا وقتُلوا} بتخفيف التاء وضم القاف، ومعنى هذه القراءة بيّن، وقرأ ابن كثير: {وقاتلوا وقتّلوا} بتشديد التاء وهي في المعنى كالأولى في المبالغة في القتل، وقرأ حمزة والكسائي: {وقتلوا وقاتلوا} يبدآن بالفعل المبني للمفعول به، وكذلك اختلافهم في سورة التوبة، غير أن ابن كثير وابن عامر يشددان في التوبة، ومعنى قراءة حمزة هذه: إما أن لا تعطى الواو رتبه لأن المعطوف بالواو يجوز أن يكون أولاً في المعنى وليس كذلك العطف بالفاء، ويجوز أن يكون المعنى وقتلوا وقاتل باقيهم فتشبه الآية قوله تعالى: {فما وهنوا لما أصابهم} [آل عمران: 146] على تأويل من رأى أن القتل وقع بالربيين، وقرأ عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه: و{قَتَلوا} بفتح القاف والتاء من غير ألف، و{قُتِلوا} بضم القاف وكسر التاء خفيفة، وهي قراءة حسنة المعنى مستوفية للفضلين على الترتيب المتعارف، وقرأ محارب بن ثار: {وقَتلوا} بفتح القاف {وقاتلوا}، وقرأ طلحة بن مصرف: {وقُتّلوا} بضم القاف وشد التاء {وقاتلوا} وهذه يدخلها إما رفض رتبه الواو، وإما أنه قاتل من بقي، واللام في قوله: {لأكفرن} لام القسم و{ثواباً} مصدر مؤكد مثل قوله: {صنع الله} [النمل: 88] و{كتاب الله عليكم} [النساء: 24] وباقي الآية بين.

.تفسير الآيات (196- 198):

{لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)}
نزلت {لا يغرنك} في هذه الآية، منزلة: لا تظن أن حال الكفار حسنة فتهتم لذلك، وذلك أن المغتر فارح بالشئ الذي يغتر به، فالكفار مغترون بتقلبهم والمؤمنون مهتمون به، لكنه ربما يقع في نفس مؤمن أن هذا الإملاء للكفار إنما هو لخير لهم، فيجئ هذا جنوحاً إلى حالهم ونوعاً من الاغترار فلذلك حسنت {لا يغرنك} ونظيره قول عمر لحفصة: لا يغرنك إن كانت جارتك أوضأ منك وأحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، المعنى: لا تغتري بما يتم لتلك من الإدلال فتقعي فيه فيطلقك النبي صلى الله عليه وسلم، والخطاب للنبي عليه السلام، والمراد أمته وللكفار في ذلك حظ، أي لا يغرنكم تقلبهم، وقرأ ابن أبي إسحاق ويعقوب: {لا يغرنْك} بسكون النون خفيفة، وكذلك لا يصدنك ولا يصدنكم ولا يغرنكم- وشبهه، والتقلب: التصرف في التجارات والأرباح والحروب وسائر الأعمال، ثم أخبر تعالى عن قلة ذلك المتاع، لأنه منقض صائر إلى ذل وقل وعذاب.
وقرأ أبو جعفر بن القعقاع:: {لكنّ الذين}، بشد النون، وعلى أن {الذين} في موضع نصب اسماً ل {لكنّ}، و{نزلاً}: معناه تكرمة، ونصبه على المصدر المؤكد، وقرأ الحسن: {نزْلاً} ساكنة الزاي، وقوله تعالى: {وما عند الله خير للأبرار} يحتمل أن يريد: خير مما هؤلاء فيه من التقلب والتنعم، ويحتمل أن يريد: خير مما هم فيه في الدنيا، وإلى هذا ذهب ابن مسعود فإنه قال: ما من مؤمن ولا كافر إلا والموت خير له، أما الكافر فلئلا يزداد إثماً، وأما المؤمن فلأن ما عند الله خير للأبرار.
قال أبو محمد: وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر»، فقال القاضي ابن الطيب: هذا هو بالإضافة إلى ما يصير إليه كل واحد منهما في الآخرة، فالدنيا على المؤمن المنعم سجن بالإضافة إلى الجنة، والدنيا للكافر الفقير المضيق عليه في حاله صحته جنة بالإضافة إلى جهنم، وقيل: المعنى أنها سجن المؤمن لأنها موضع تبعه في الطاعات وصومه وقيامه، فهو فيها كالمعنت المنكل، وينتظر الثواب في الأخرى التي هي جنته، والدنيا جنة الكافر، لأنها موضع ثوابه على ما عسى أن يعمل من خير، وليس ينتظر في الآخرة ثواباً، فهذه جنته، وهذا القول عندي كالتفسير والشرح للأول.

.تفسير الآيات (199- 200):

{وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآَيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)}
اختلف المتأولون، فيمن عنى بهذه الآية، فقال جابر بن عبد الله وابن جريج وقتادة وغيرهم: نزلت بسبب أصحمة النجاشي سلطان الحبشة، وذلك أنه كان مؤمناً بالله وبمحمد صلى الله عليه وسلم، فلما مات عرف بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك اليوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: اخرجوا فصلوا على أخ لكم، فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس، فكبر أربعاً، وفي بعض الحديث: أنه كشف لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن نعشه في الساعة التي قرب منها للدفن، فكان يراه من موضعه بالمدينة، فلما صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم قال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلي على علج نصراني لم يره قط، فنزلت هذه الآية، وكان أصحمة النجاشي نصرانياً، وأصحمة تفسيره بالعربية عطية، قاله سفيان بن عيينة وغيره، وروي أن المنافقين قالوا بعد ذلك: فإنه لم يصل القبلة فنزلت {والله المشرق والمغرب فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة: 115] وقال قوم: نزلت في عبد الله بن سلام، وقال ابن زيد ومجاهد: نزلت في جميع من آمن من أهل الكتاب، و{خاشعين} حال من الضمير في {يؤمن}، ورد {خاشعين} على المعنى في {من} لأنه جمع لا على لفظ {من} لأنه إفراد، وقوله تعالى: {لا يشترون بأيات الله ثمناً قليلاً} مدح لهم وذم لسائر كفار أهل الكتاب لتبديلهم وإيثارهم كسب الدنيا الذي هو ثمن قليل على آخرتهم وعلى آيات الله تعالى، وقوله تعالى: {إن الله سريع الحساب} قيل معناه: سريع إتيان بيوم القيامة، وهو يوم الحساب، فالحساب إذاً سريع إذ كل آت قريب، وقال قوم: {سريع الحساب} أي إحصاء أعمال العباد وأجورهم وآثامهم، إذ ذلك كله في عمله لا يحتاج فيه إلى عد وروية ونظر كما يحتاج البشر.
ثم ختم الله تعالى السورة بهذه الوصاة التي جمعت الظهور في الدنيا على الأعداء، والفوز بنعيم الآخرة، فحض على الصبر على الطاعات وعن الشهوات، وأمر بالمصابرة فقيل: معناه مصابرة الأعداء، قاله زيد بن أسلم، وقيل معناه: مصابرة وعد الله في النصر، قاله محمد بن كعب القرظي: أي لا تسأموا وانتظروا الفرج، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «انتظار الفرج بالصبر عبادة»، وكذلك اختلف المتأولون في معنى قوله: {ورابطوا} فقال جمهور الأمة معناه: رابطوا أعداءكم الخيل، أي ارتبطوها كما يرتبطها أعداؤكم، ومنه قوله عز وجل: {ومن رباط الخيل} [الأنفال: 8]، وكتب عمر بن الخطاب إلى أبي عبيدة، وقد كتب إليه يذكر جموع الروم، فكتب إليه عمر: أما بعد، فإنه مهما نزل بعبد مؤمن شدة، جعل الله بعدها فرجاً، ولن يغلب عسر يسرين، وأن الله تعالى يقول في كتابه: {يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا} الآية، وقد قال أبو سلمة بن عبد الرحمن: هذه الآية هي في انتظار الصلاة بعد الصلاة، ولم يكن في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم غزو يرابط فيه، واحتج بحديث علي بن أبي طالب وجابر بن عبد الله وأبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ألا أدلكم على ما يحط الله به الخطايا ويرفع به الدرجات؟ إسباغ الوضوء على المكاره، وكثرة الخطى إلى المساجد، وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط فذلكم الرباط فذلكم الرباط، والقول الصحيح هو أن الرباط هو الملازمة في سبيل الله أصلها من ربط الخيل، ثم سمي كل ملازم لثغر من ثغور الإسلام مرابطاً، فارساً كان أو راجلاً، واللفظة مأخوذة من الربط، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: فذلك الرباط إنما هو تشبيه بالرباط في سبيل الله، إذ انتظار الصلاة إنما هو سبيل من السبل المنجية، والرباط اللغوي هو الأول، وهذا كقوله: ليس الشديد بالصرعة: كقوله: ليس المسكين بهذا الطواف إلى غير ذلك من الأمثلة، والمرابط في سبيل الله عند الفقهاء: هو الذي يشخص إلى ثغر من الثغور ليرابط فيه مدة ما، قاله ابن المواز ورواه، فأما سكان الثغور دائماً بأهليهم الذي يعتمرون ويكتسبون هنالك، وإن كانوا حماة فليسوا بمرابطين، وقوله: {لعلكم تفلحون} ترجّ في حق البشر.

.سورة النساء:

.تفسير الآية رقم (1):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)}
{يا} حرف نداء {أي} منادى مفرد- و{ها} تنبيه، و{الناس}- نعت لأي أو صلة على مذهب أبي الحسن الأخفش، والرب: المالك، وفي الآية تنبيه على الصانع وعلى افتتاح الوجود، وفيها حض على التواصل لحرمة هذا النسب وإن بعد، وقال: {واحدة} على تأنيث لفظ النفس، وهذا كفول الشاعر: [الوافر]
أَبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أُخْرى ** وأَنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ

وقرأ ابن أبي عبلة- {من نفس واحد} بغير هاء، وهذا على مراعاة المعنى، إذ المراد بالنفس آدم صلى الله عليه وسلم، قاله مجاهد وقتادة وغيرهما، والخلق في الآية: بمعنى الاختراع، ويعني بقوله: {زوجها} حواء، والزوج في كلام العرب: امرأة الرجل، ويقال زوجة، ومنه بيت أبي فراس: [الطويل]
وإنَّ الذي يَسْعى لِيُفْسِدَ زَوْجَتي ** كَساعٍ إلى أُسْدِ الشَّرىَ يَسْتَبِيلُها

وقوله: {منها}، قال ابن عباس ومجاهد والسدي وقتادة، إن الله تعالى خلق آدم وَحِشاً في الجنة وحده، ثم نام فانتزع الله أحد أضلاعه القصيرى من شماله، وقيل: من يمينه فخلق منه حواء، ويعضد هذا القول الحديث الصحيح في قوله عليه السلام: «إن المرأة خلقت من ضلع، فإن ذهبت تقيمها كسرتها» وكسرها طلاقها. وقال بعضهم: معنى {منها} من جنسها، واللفظ يتناول المعنيين، أو يكون لحمها وجواهرها في ضلعه، ونفسها من جنس نفسه، و{بث} معناه: نشر، كقوله تعالى: {كالفراش المبثوث} [القارعة: 4] أي المنتشر، وحصره ذريتها إلى نوعين الرجال والنساء مقتض أن الخنثى ليس بنوع، وأنه وإن فرضناه مشكل الظاهر عندنا، فله حقيقة ترده إلى أحد هذين النوعين، وفي تكرار الأمر بالاتقاء تأكيد وتنبيه لنفوس المأمورين. و{الذي} في موضع نصب على النعت- و{تساءلون} معناه: تتعاطفون به، فيقول أحدكم: أسألك بالله أن تفعل كذا وما أشبهه وقالت طائفة معناه: {تساءلون به} حقوقكم وتجعلونه مقطعاً لها وأصله: {تتساءلون} فأبدلت التاء الثانية سيناً وأغمت في السين، وهذه قراءة ابن كثير ونافع وابن عامر وابن عمرو، بخلاف عنه، وقرأ الباقون- {تساءلون}- بسين مخففة وذلك لأنهم حذفوا التاء الثانية تخفيفاً فهذه تاء تتفاعلون تدغم في لغة وتحذف في أخرى لاجتماع حروف متقاربة، قال أبو علي: وإذا اجتمعت المتقاربة خففت بالحذف والإدغام والإبدال كما قالوا: طست فأبدلوا من السين الواحدة تاء، إذ الأصل طس: قال العجاج: [الرجز]
لَوْ عَرَضَتْ لأَيْبُلِيِّ قسِّ ** أشعثَ في هيكله مندسِّ

حنَّ إليها كَخَنِينِ الطَّسِّ

وقال ابن مسعود- {تسألون}- خفيفة بغير ألف، و{الأرحام} نصب على العطف على موضع به لأن موضعه نصب، والأظهر أنه نصب بإضمار فعل تقديره: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، وهذه قراءة السبعة إلا حمزة، وعليها فسر ابن عباس وغيره، وقرأ عبد الله بن يزيد- والأرحامُ- بالرفع وذلك على الابتداء والخبر مقدر تقديره: والأرحام أهل أن توصل، وقرأ حمزة وجماعة من العلماء- {والأرحامِ}- بالخفض عطفاً على الضمير، والمعنى عندهم: أنها يتساءل بها كما يقول الرجل: أسألك بالله وبالرحم، هكذا فسرها الحسن وإبراهيم النخعي ومجاهد، وهذه القراءة عند رؤساء نحويي البصرة لا تجوز، لأنه لا يجوز عندهم أن يعطف ظاهر على مضمر مخفوض، قال الزجاج عن المازني: لأن المعطوف والمعطوف عليه شريكان يحل كل واحد منهما محل صاحبه، فكما لا يجوز: مررت بزيدوك، فكذلك لا يجوز مررت بك وزيد، وأما سيبويه فهي عنده قبيحة لا تجوز إلا في الشعر، كما قال: [البسيط]
فَالْيَوْمَ قَدْ بِتَّ تهجونا وتَشْتُمُنا ** فَاذْهَبْ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ

وكما قال: [الطويل]
نُعَلِّقُ فِي مِثْلِ السَّوَاري سُيوفَنَا ** وَمَا بَيْنَها والْكَعْبِ غَوْطُ نَفَانِفِ

واستهلها بعض النحويين، قال أبو علي: ذلك ضعيف في القياس.
قال القاضي أبو محمد: المضمر المخفوض لا ينفصل فهو كحرف من الكلمة، ولا يعطف على حرف، ويرد عندي هذه القراءة من المعنى وجهان: أحدهما أن ذكر الأرحام فيما يتساءل به لا معنى له في الحض على تقوى الله، ولا فائدة فيه أكثر من الإخبار بأن الأرحام يتساءل بها، وهذا تفرق في معنى الكلام وغض من فصاحته، وإنما الفصاحة في أن يكون لذكر الأرحام فائدة مستقلة، والوجه الثاني أن في ذكرها على ذلك تقريراً للتساؤل بها والقسم بحرمتها، والحديث الصحيح يرد ذلك في قوله عليه السلام: «من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت» وقالت طائفة: إنما خفض- {والأرحامِ}- على جهة القسم من الله على ما اختص به إله إلا هو من القسم بمخلوقاته، ويكون المقسم عليه فيما بعد من قوله: {إن الله كان عليكم رقيباً} وهذا كلام يأباه نظم الكلام وسرده، وإن كان المعنى يخرجه- و{كان} في هذه الآية ليست لتحديد الماضي فقط، بل المعنى: كان وهو يكون، والرقيب: بناء الاسم الفاعل من رقب يرقب إذا أحد النظر بالبصر أو بالبصيرة إلى أمر ما ليتحققه على ما هو عليه، ويقترن بذلك حفظ ومشاهدة وعلم بالحاصل عن الرقبة، وفي قوله: {عليكم} ضرب من الوعيد، ولم يقل {لكم} للاشتراك الذي كان يدخل من أنه يرقب لهم ما يصنع غيرهم، ومما ذكرناه قيل للذي يرقب خروج السهم من ربابة الضريب في القداح رقيب، لأنه يرتقب ذلك، ومنه قول أبي دؤاد: [مجزوء الكامل]
كَمَقَاعِدِ الرُّقَبَاءِ لِلضُّرَبَاءِأَيْدِيهِمْ نَوَاهِدْ...